انستايسين
السبت نوفمبر 18, 2023 3:57 am
ناستاسين
بقلم: مصطفى نصر
بين خطوط الطول ودوائر العرض التي قد تكون وهمية، عوالم حقيقية ذاخرة بالحياة. وفي يوم من أيام الله، بين خطوط الطول ودوائر العرض، استدعاني مدير التحرير في الصحيفة التي أعمل بها، ولأنه يؤمن بالنظرية التي تقولالكاش يقلل النقاش) بادرني بتصديق مالي بمبلغ محترم مصدق من الإدارة ورئيس التحرير، ولم يبق سوى أن أحمله للمدير المالي ليصدق عليه، ثم المراقب المالي ليؤكد أنه ضمن قائمة البنود المعتمدة للصرف، لأصل للخطوة الأخيرة التي اعتدت أن أسميها (كش ملك) وهي الذهاب للصراف لاستلام المبلغ.
قال لي مدير التحرير: بما أنك محررنا الثقافي، فإن هذا المبلغ لمأمورية ثقافية تم الاتفاق بالإجماع على تكليفك بها، وهي مهمة لا يدري عدد أيامها إلا الله تعالى، فحتى البروفيسور رئيس البعثة الأثرية الذي يتبع لجامعة هارفارد الأمريكيةْ لا يعرف كم ستستغرق مهمته هذه لأنه سيدخل في تجربة جديدة جدا سيتم تدشينها لأول مرة، وهي البحث عن الآثار تحت الماء، وليس في الصحراء بين الرمال كما هو الحال دائما.
دس بين يدي كارت عمل يحمل اسم مقرر الرحلة، وطلب مني الاتصال بهذا الشخص للتنسيق للرحلة التي ستتحرك فجرا، وستدوم اعتبارا من الغد مع هؤلاء الناس، وتمدنا أولا بأول بأخبار هذه البعثة الهامة. وبما أن الموازنة لا تسمح بإرسال مصور معك، فإن كاميرا الصحيفة الاحتياطية ستكون عهدة معك، لا تنس أن توثق كل صغيرة وكبيرة.
اتصلت بمنسق الرحلة فأخبرني أن الرحلة بالطائرة للمدينة التي تقع في أقصى الشمال، ثم بالسيارات للمدينة الملكية والأهرامات موضوع البعثة، وأخبرني بأنهم سيتجمعون في فندق شهير سماه لي ابتداءً من التاسعة مساء نفس هذا اليوم. وفي الموعد المحدد كنت هناك في الفندق، لم يصل أحد قبلي، لكني وجدت غرفة باسمي حُجزت لي.
وضعت حقيبتي وتهيأت للاستلقاء، لكن هاتف الغرفة رن، حدثني المنسق بأن اجتماعا سيعقد بعد ٤٥ دقيقة.
في الموعد تمامًا، وبقاعة داخلية في الفندق بدأ رئيس البعثة بروفيسور جورج يحدثنا بصوت عميق، كأنه قادم من أعماق التاريخ الذي هو اختصاصه الذي وهب نفسه له منذ أكثر من أربعة عقود، أوضح لنا أن أجندة الاجتماع تتمثل في أمرين، الأول: هو التعارف بين أعضاء البعثة وعددهم تسعة أفراد، وسيلتحق بنا ١٢ عاملا عند وصولنا، والثاني هو شرح طبيعة المهمة التي تكفلت بها الجمعية الجغرافية الأمريكيةْ لإنقاذ أهرامات ملوك مملكة كوش.
بعد أن عرَّف كل شخص نفسه ومهمته، بدأ البروفيسور يشرح لنا طبيعة المهمة، وحدثنا عن أن أمد الرحلة بين أسبوعين لو تسهلت الأمور، وشهر في حدودها العليا.
كانت المهمة تنحصر في الهرم رقم ٣٩ الذي كان قبل 3500 عام، المثوى الأخير لـ"ناستاسين" الملك الذي قاد مملكة "كوش" مدة ناهزت العقدين من الزمان، وقد زاد منسوب المياه تحت هذا الهرم بفعل تغير المناخ، والاحتياجات الزراعية المتزايدة للمنطقة، والسدود الحديثة التي تعمل على تحويل مجرى نهر النيل، فتهدم الهرم من أعلاه وامتلأت غرفه الثلاثة بالماء.
كانت البعثة من شقين؛ شق هندسي يهدف لتثبيت دعامات من الأسمنت الأبيض المعالج بعوازل مائية أسفل الهرم ٣٩ لحمايته من التهدم، ومن ثم عمل حاجز خرساني منيع لحماية باقي الأهرامات.
وشق أثري يتعلق باكتشاف المقبرة، والبحث عن مومياء الملك ناستاسين، والبحث عن آثار جنائزية، ومقتنيات أثرية فخارية، وربما كنوز ثمينة وتماثيل.
الجانب المرعب في المسألة أن المهمة عبارة عن غوص في أعماق مظلمة بخراطيم أكسجين مثبتة في الخارج، ولا سبيل لحمل اسطوانات الأكسجين الثقيلة، مع احتمال تهدم الهرم ليدفن الجميع تحت حجارته الثقيلة التي يبلغ وزن الواحدة منها عشرين طناً وهم أحياء أثناء الحفريات التي ستحدث أسفل الهرم، وقد كانت تطمينات رئيس البعثة بالتأمين على حياة الجميع بمبالغ دولارية ضخمة تزيد من القلق أكثر من الطمأنينة، إذ أن دولارات العالم كلها تصبح ليست ذات قيمة عندما تكون جثة هامدة وفوقك حجر يزن عشرين طناً.
هدأت مخاوفي وتنفست الصعداء عندما قرر رئيس البعثة عدم دخول الصحفيين إلى داخل الهرم لضيق مساحة حجراته الثلاث، واحتياجه أكثر لفريق العمل.
بدأنا نرى عبر شاشة في الخارج أعضاء البعثة وهم يلجون للغرفة الأولى عبر قناة مظلمة، وقد حجبت سحب الرواسب والطحالب كل مجال للرؤية، وكان التنقيب عن الآثار فيها صعبًا للغاية بسبب كثافة الرمل، وصعوبة الحركة مع خراطيم الهواء المثبتة خارج الهرم.
أخرج العاملون الذين دربوهم على حطام سفينة مستقرة منذ سنوات أسفل المحيط الأطلسي أطناناً من الرمل من الغرفة الأولى التي بدأوا بالحفريات أسفلها لتثبيت الدعامات الإسمنتية، وقد كشف الفحص الأولي عن فرص نجاح كبيرة للدعامات المعالجة بعوازل مائية في وقف تسرب المياه للهرم، لصلابة التربة الصخرية أسفل الهرم، وقد اكتفوا بتثبيت دعامات أخرى في الغرفة الثالثة زيادة في الحماية من تسرب المياه الجوفية مستقبلا.
كان الحفر تتم بأدوات تقليدية كالجاروف والإزميل، وتحاشوا الحافرات الكهربائية خوفا من تهدم الهرم، وكان الفريق الثاني الآثاري بدأ في التنقيب عن آثار خارج الهرم، أما الغرفة الثانية فقد كانت أحسن حالا، حيث أدى انهيار السقف إلى نشوء تجويف هوائي كان لهم بمنزلة هدية، وهنالك، على ضوء مصباح يدوي، بدأ العمل، وكانت مهارات التنقيب التقليدية القائمة على نفض التربة بلا جدوى؛ لذا حاول العاملون ابتكار أدوات تناسب هذه المهمة مما توفر من موارد.
كانت الدعامات بعد أسبوع من العمل قد نجحت نجاحا فائقا وأوقفت تسرب المياه لجميع الأهرامات الـ٣٩، وزيادة في الاطمئنان قام المهندسون بعمل جسر من الجدران الإسمنتية لوقف تسرب المياه، ولم يبق من الجانب الهندسي إلا إعادة الحجارة وترميم سقف الهرم المتضرر رقم (39)، أمًا من جانب العمل الأثاري فقد وجدت البعثة مصوغات ذهبية دفنت مع الملك وعملات ذهبية، وبعض الأواني الفخارية الأثرية.
انتهت المهمة بعد ٢١ يوما من بدايتها محققة كل الأهداف، ولم نفقد شخصا والحمد لله، وكانت أجمل تجربة لي كصحفي في مهنة المتاعب.
بقلم: مصطفى نصر
بين خطوط الطول ودوائر العرض التي قد تكون وهمية، عوالم حقيقية ذاخرة بالحياة. وفي يوم من أيام الله، بين خطوط الطول ودوائر العرض، استدعاني مدير التحرير في الصحيفة التي أعمل بها، ولأنه يؤمن بالنظرية التي تقولالكاش يقلل النقاش) بادرني بتصديق مالي بمبلغ محترم مصدق من الإدارة ورئيس التحرير، ولم يبق سوى أن أحمله للمدير المالي ليصدق عليه، ثم المراقب المالي ليؤكد أنه ضمن قائمة البنود المعتمدة للصرف، لأصل للخطوة الأخيرة التي اعتدت أن أسميها (كش ملك) وهي الذهاب للصراف لاستلام المبلغ.
قال لي مدير التحرير: بما أنك محررنا الثقافي، فإن هذا المبلغ لمأمورية ثقافية تم الاتفاق بالإجماع على تكليفك بها، وهي مهمة لا يدري عدد أيامها إلا الله تعالى، فحتى البروفيسور رئيس البعثة الأثرية الذي يتبع لجامعة هارفارد الأمريكيةْ لا يعرف كم ستستغرق مهمته هذه لأنه سيدخل في تجربة جديدة جدا سيتم تدشينها لأول مرة، وهي البحث عن الآثار تحت الماء، وليس في الصحراء بين الرمال كما هو الحال دائما.
دس بين يدي كارت عمل يحمل اسم مقرر الرحلة، وطلب مني الاتصال بهذا الشخص للتنسيق للرحلة التي ستتحرك فجرا، وستدوم اعتبارا من الغد مع هؤلاء الناس، وتمدنا أولا بأول بأخبار هذه البعثة الهامة. وبما أن الموازنة لا تسمح بإرسال مصور معك، فإن كاميرا الصحيفة الاحتياطية ستكون عهدة معك، لا تنس أن توثق كل صغيرة وكبيرة.
اتصلت بمنسق الرحلة فأخبرني أن الرحلة بالطائرة للمدينة التي تقع في أقصى الشمال، ثم بالسيارات للمدينة الملكية والأهرامات موضوع البعثة، وأخبرني بأنهم سيتجمعون في فندق شهير سماه لي ابتداءً من التاسعة مساء نفس هذا اليوم. وفي الموعد المحدد كنت هناك في الفندق، لم يصل أحد قبلي، لكني وجدت غرفة باسمي حُجزت لي.
وضعت حقيبتي وتهيأت للاستلقاء، لكن هاتف الغرفة رن، حدثني المنسق بأن اجتماعا سيعقد بعد ٤٥ دقيقة.
في الموعد تمامًا، وبقاعة داخلية في الفندق بدأ رئيس البعثة بروفيسور جورج يحدثنا بصوت عميق، كأنه قادم من أعماق التاريخ الذي هو اختصاصه الذي وهب نفسه له منذ أكثر من أربعة عقود، أوضح لنا أن أجندة الاجتماع تتمثل في أمرين، الأول: هو التعارف بين أعضاء البعثة وعددهم تسعة أفراد، وسيلتحق بنا ١٢ عاملا عند وصولنا، والثاني هو شرح طبيعة المهمة التي تكفلت بها الجمعية الجغرافية الأمريكيةْ لإنقاذ أهرامات ملوك مملكة كوش.
بعد أن عرَّف كل شخص نفسه ومهمته، بدأ البروفيسور يشرح لنا طبيعة المهمة، وحدثنا عن أن أمد الرحلة بين أسبوعين لو تسهلت الأمور، وشهر في حدودها العليا.
كانت المهمة تنحصر في الهرم رقم ٣٩ الذي كان قبل 3500 عام، المثوى الأخير لـ"ناستاسين" الملك الذي قاد مملكة "كوش" مدة ناهزت العقدين من الزمان، وقد زاد منسوب المياه تحت هذا الهرم بفعل تغير المناخ، والاحتياجات الزراعية المتزايدة للمنطقة، والسدود الحديثة التي تعمل على تحويل مجرى نهر النيل، فتهدم الهرم من أعلاه وامتلأت غرفه الثلاثة بالماء.
كانت البعثة من شقين؛ شق هندسي يهدف لتثبيت دعامات من الأسمنت الأبيض المعالج بعوازل مائية أسفل الهرم ٣٩ لحمايته من التهدم، ومن ثم عمل حاجز خرساني منيع لحماية باقي الأهرامات.
وشق أثري يتعلق باكتشاف المقبرة، والبحث عن مومياء الملك ناستاسين، والبحث عن آثار جنائزية، ومقتنيات أثرية فخارية، وربما كنوز ثمينة وتماثيل.
الجانب المرعب في المسألة أن المهمة عبارة عن غوص في أعماق مظلمة بخراطيم أكسجين مثبتة في الخارج، ولا سبيل لحمل اسطوانات الأكسجين الثقيلة، مع احتمال تهدم الهرم ليدفن الجميع تحت حجارته الثقيلة التي يبلغ وزن الواحدة منها عشرين طناً وهم أحياء أثناء الحفريات التي ستحدث أسفل الهرم، وقد كانت تطمينات رئيس البعثة بالتأمين على حياة الجميع بمبالغ دولارية ضخمة تزيد من القلق أكثر من الطمأنينة، إذ أن دولارات العالم كلها تصبح ليست ذات قيمة عندما تكون جثة هامدة وفوقك حجر يزن عشرين طناً.
هدأت مخاوفي وتنفست الصعداء عندما قرر رئيس البعثة عدم دخول الصحفيين إلى داخل الهرم لضيق مساحة حجراته الثلاث، واحتياجه أكثر لفريق العمل.
بدأنا نرى عبر شاشة في الخارج أعضاء البعثة وهم يلجون للغرفة الأولى عبر قناة مظلمة، وقد حجبت سحب الرواسب والطحالب كل مجال للرؤية، وكان التنقيب عن الآثار فيها صعبًا للغاية بسبب كثافة الرمل، وصعوبة الحركة مع خراطيم الهواء المثبتة خارج الهرم.
أخرج العاملون الذين دربوهم على حطام سفينة مستقرة منذ سنوات أسفل المحيط الأطلسي أطناناً من الرمل من الغرفة الأولى التي بدأوا بالحفريات أسفلها لتثبيت الدعامات الإسمنتية، وقد كشف الفحص الأولي عن فرص نجاح كبيرة للدعامات المعالجة بعوازل مائية في وقف تسرب المياه للهرم، لصلابة التربة الصخرية أسفل الهرم، وقد اكتفوا بتثبيت دعامات أخرى في الغرفة الثالثة زيادة في الحماية من تسرب المياه الجوفية مستقبلا.
كان الحفر تتم بأدوات تقليدية كالجاروف والإزميل، وتحاشوا الحافرات الكهربائية خوفا من تهدم الهرم، وكان الفريق الثاني الآثاري بدأ في التنقيب عن آثار خارج الهرم، أما الغرفة الثانية فقد كانت أحسن حالا، حيث أدى انهيار السقف إلى نشوء تجويف هوائي كان لهم بمنزلة هدية، وهنالك، على ضوء مصباح يدوي، بدأ العمل، وكانت مهارات التنقيب التقليدية القائمة على نفض التربة بلا جدوى؛ لذا حاول العاملون ابتكار أدوات تناسب هذه المهمة مما توفر من موارد.
كانت الدعامات بعد أسبوع من العمل قد نجحت نجاحا فائقا وأوقفت تسرب المياه لجميع الأهرامات الـ٣٩، وزيادة في الاطمئنان قام المهندسون بعمل جسر من الجدران الإسمنتية لوقف تسرب المياه، ولم يبق من الجانب الهندسي إلا إعادة الحجارة وترميم سقف الهرم المتضرر رقم (39)، أمًا من جانب العمل الأثاري فقد وجدت البعثة مصوغات ذهبية دفنت مع الملك وعملات ذهبية، وبعض الأواني الفخارية الأثرية.
انتهت المهمة بعد ٢١ يوما من بدايتها محققة كل الأهداف، ولم نفقد شخصا والحمد لله، وكانت أجمل تجربة لي كصحفي في مهنة المتاعب.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى